الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ (وَلَقَدْ صَدَّقَ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ مِنْ صَدَقَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ ظَنًّا مِنْهُ (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) وَقَالَ {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} ثُمَّ صَدَقَ ظَنُّهُ ذَلِكَ فِيهِمْ فَحَقَّقَ ذَلِكَ بِهِمْ، وَبِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالشَّأْمِ وَالْبَصْرَةِ (وَلَقَدْ صَدَقَ) بِتَخْفِيفِ الدَّالِ بِمَعْنَى: وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ ظَنُّهُ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ إِبْلِيسَ قَدْ صَدَّقَ عَلَى كَفَرَةِ بَنِي آدَمَ فِي ظَنِّهِ، وَصَدَقَ عَلَيْهِمْ ظَنُّهُ الَّذِي ظَنَّ حِينَ قَالَ: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} وَحِينَ قَالَ (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ...) الْآيَةَ، قَالَ ذَلِكَ عَدُوُّ اللَّهِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَا عِلْمًا، فَصَارَ ذَلِكَ حَقًّا بِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ. فَبِأَيِّ الْقِرَاءَتَيْنِ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ: وَلَقَدْ ظَنَّ إِبْلِيسُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ عُقُوبَةً مِنَّا لَهُمْ، ظَنًّا غَيْرَ يَقِينٍ، عَلِمَ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَهُ وَيُطِيعُونَهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَصَدَّقَ ظَنَّهُ عَلَيْهِمْ بِإِغْوَائِهِ إِيَّاهُمْ حَتَّى أَطَاعُوهُ وَعَصَوْا رَبَّهُمْ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ فَإِنَّهُمْ ثَبَتُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَةِ إِبْلِيسَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ عَنْ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) مُشَدَّدَةً، وَقَالَ: ظَنَّ ظَنًّا فَصَدَّقَ ظَنَّهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) قَالَ: ظَنَّ ظَنًّا فَاتَّبَعُوا ظَنَّهُ. قَالَ: ثنا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) قَالَ اللَّهُ: مَا كَانَ إِلَّا ظَنًّا ظَنَّهُ، وَاللَّهُ لَا يُصَدِّقُ كَاذِبًا وَلَا يُكَذِّبُ صَادِقًا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) قَالَ: أَرَأَيْتَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَرَّمْتَهُمْ عَلَيَّ وَفَضَّلْتَهُمْ وَشَرَّفْتَهُمْ لَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَقَالَ اللَّهُ (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَافِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا كَانَ لِإِبْلِيسَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ مِنْ حُجَّةٍ يُضِلُّهُمْ بِهَا إِلَّا بِتَسْلِيطِنَاهُ عَلَيْهِمْ؛ لِيُعْلَمَ حِزْبُنَا وَأَوْلِيَاؤُنَا (مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ) يَقُولُ: مَنْ يُصَدِّقُ بِالْبَعْثِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ (مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ) فُلَا يُوقِنُ بِالْمَعَادِ، وَلَا يُصَدِّقُ بِثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ) قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا ضَرَبَهُمْ بِعَصَا وَلَا سَيْفٍ وَلَا سَوْطٍ، إِلَّا أَمَانِيَّ وَغُرُورًا دَعَاهُمْ إِلَيْهَا. قَالَ: ثنا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ بَلَاءً لِيَعْلَمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ. وَقِيلَ: عُنِيَ بِقَوْلِهِ (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ) إِلَّا لِنَعْلَمَ ذَلِكَ مَوْجُودًا ظَاهِرًا لِيُسْتَحَقَّ بِهِ الثَّوَابُ أَوِ الْعِقَابُ. وَقَوْلُهُ {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَرَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى أَعْمَالِ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ بِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا (حَفِيظٌ) لَا يَعْزُبُ عَنْهُ عِلْمُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَهُوَ مُجَازٍ جَمِيعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا كَسَبُوا فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِوَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَهَذَا فِعْلُنَا بَوَلِيِّنَا وَمَنْ أَطَاعَنَا، دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ الَّذِي فَعَلْنَا بِهِمَا مِنْ إِنْعَامِنَا عَلَيْهِمَا النِّعَمَ الَّتِي لَا كَفَاءَ لَهَا إِذْ شَكَرَانَا، وَذَاكَ فِعْلُنَا بِسَبَأٍ الَّذِينَ فَعَلْنَا بِهِمْ، إِذْ بَطِرُوا نِعْمَتَنَا وَكَذَّبُوا رُسُلَنَا وَكَفَرُوا أَيَادِيَنَا، فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمْ مِنْ قَوْمِكَ الْجَاحِدِينَ نِعَمَنَا عِنْدَهُمْ: ادْعُوا أَيُّهَا الْقَوْمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ لِلَّهِ شَرِيكٌ مِنْ دُونِهِ، فَسَلُوهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِكُمْ بَعْضَ أَفْعَالِنَا بِالَّذِينِ وَصَفْنَا أَمْرَهُمْ مِنْ إِنْعَامٍ أَوْ إِيَاسٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُبْطِلُونَ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ لَا تَصْلُحُ وَلَا تَجُوزُ، ثُمَّ وَصَفَ الَّذِينَ يُدْعَوْنَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ مِنْ خَيْرٍ وَلَا شَرٍّ وَلَا ضُرٍّ وَلَا نَفْعٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا مَنْ كَانَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا هُمْ إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ مُنْفَرِدِينَ بِمِلْكِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَمْلِكُونَهُ عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ، لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ فِي الْمَمْلُوكَاتِ لَا تَكُونُ لِمَالِكِهَا إِلَّا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا مَقْسُومًا، وَإِمَّا مَشَاعًا، يَقُولُ: وَآلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ وَزْنَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، لَا مَشَاعًا وَلَا مَقْسُومًا، فَكَيْفَ يَكُونُ مَنْ كَانَ هَكَذَا شَرِيكًا لِمَنْ لَهُ مُلْكُ جَمِيعِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) يَقُولُ: وَمَا لِلَّهِ مِنَ الْآلِهَةِ الَّتِي يَدَّعُونَ مِنْ دُونِهِ مُعِينٌ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا عَلَى حِفْظِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَلِكُ شَيْءٍ مِنْهُ مَشَاعًا وَلَا مَقْسُومًا، فَيُقَالُ: هُوَ لَكَ شَرِيكٌ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَعَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَلِكُ شَيْءٍ مِنْهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فَى ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} يَقُولُ: مَا لِلَّهِ مِنْ شَرِيكٍ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ (وَمَا لَهُ مِنْهُمْ) مِنَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ (مِنْ ظَهِيرٍ) مِنْ عَوْنٍ بِشَيْءٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا تَنْفَعُ شَفَاعَةُ شَافِعٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ الشَّافِعُ لِمَنْ شَفَعَ لَهُ، إِلَّا أَنْ يَشْفَعَ لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الشَّفَاعَةِ، يَقُولُ تَعَالَى: فَإِذَا كَانَتِ الشَّفَاعَاتُ لَا تَنْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ أَحَدًا إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الشَّفَاعَةِ لَهُ، وَاللَّهُ لَا يَأْذَنُ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فِي الشَّفَاعَةِ لِأَحَدٍ مِنَ الْكَفَرَةِ بِهِوَأَنْتُمْ أَهْلُ كُفْرٍ بِهِ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَنْ تَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ زَعْمًا مِنْكُمْ أَنَّكُمْ تَعْبُدُونَهُ لِيُقَرِّبَكُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى وَلِيَشْفَعَ لَكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ. فـ "مَنْ" إِذْ كَانَ هَذَا مَعْنَى الْكَلَامِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ): الْمَشْفُوعُ لَهُ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ (أُذِنَ لَهُ) فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ بِضَمِّ الْأَلِفِ مِنْ (أُذِنَ لَهُ) عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ (أَذِنَ لَهُ) عَلَى اخْتِلَافٍ أَيْضًا عَنْهُ فِيهِ، بِمَعْنَى أَذِنَ اللَّهُ لَهُ. وَقَوْلُهُ (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) يَقُولُ: حَتَّى إِذَا جُلِيَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَكُشِفَ عَنْهَا الْفَزَعُ وَذَهَبَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) يَعْنِي: جُلِيَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) قَالَ: كُشِفَ عَنْهَا الْغِطَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: إِذَا جُلِيَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَنْ هُمْ؟ وَمَا السَّبَبُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الَّذِي فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمِ الْمَلَائِكَةُ، قَالُوا: وَإِنَّمَا يُفَزَّعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ مِنْ غَشْيَةٍ تُصِيبُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِهِمُ اللَّهَ بِالْوَحْيِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) قَالَ: إِذَا حَدَثَ أَمْرٌ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ سَمِعَ مَنْ دَونَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ صَوْتًا كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا فَيُغْشَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا ذَهَبَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ تَنَادَوْا: (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ)؟ قَالَ: فَيَقُولُ مَنْ شَاءَ: قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ قَالَ: سَمِعْتُ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: إِذَا حَدَثَ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ أَمْرٌ سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ صَوْتًا كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا، قَالَ: فَيُغْشَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالَ: فَيَقُولُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثني عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا حَدَثَ أَمْرٌ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَعْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَيُغْشَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَزَعِ، حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ذَلِكَ عَنْهُمْ تَنَادَوْا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) قَالَ: إِنَّ الْوَحْيَ إِذَا أُلْقِيَ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَلْصَلَةً كَصَلْصَلَةِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ، قَالَ: فَيَتَنَادَوْنَ فِي السَّمَاوَاتِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالَ: فَيَتَنَادَوْنَ: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. وَبِهِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: يَنْـزِلُ الْأَمْرُ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْعِزَّةِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا؛ فَيَفْزَعُ أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حَتَّى يَسْتَبِينَ لَهُمُ الْأَمْرُ الَّذِي نَـزَلَ فِيهِ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ...) الْآيَةَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ قَالَ: ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: ثنا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى أَمْرًا فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا جَمِيعًا، وَلِقَوْلِهِ صَوْتٌ كَصَوْتِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا الصَّفْوَانِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}». حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: ثنا أَيُّوبُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ قَالَ: "يَأْتِينِي فِي صَلْصَلَةٍ كَصَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، فَيَفْصِمُ عَنِّي حِينَ يَفْصِمُ وَقَدْ وَعَيْتُهُ وَيَأْتِي أَحْيَانًا فِي مِثْلِ صُورَةِ الرَّجُلِ، فَيُكَلِّمُنِي بِهِ كَلَامًا هُوَ أَهْوَنُ عَلَيَّ". حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ أَبَانٍ الْمِصْرِيُّ، قَالَ: ثنا نُعَيْمٌ قَالَ: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي زَكَرِيَّا، عَنْ جَابِرِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوحِيَ بِالْأَمْرِ تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ، أَخَذَتِ السَّمَاوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ أَوْ قَالَ رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ خَوْفَ أَمْرِ اللَّهِ فَإِذَا سَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَعِقُوا وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرَائِيلُ فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ، ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرَائِيلُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ سَأَلَهُ مَلَائِكَتُهَا: مَاذَا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرَائِيلُ؟ فَيَقُولُ جِبْرَائِيلُ: قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، قَالَ: فَيَقُولُونَ كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرَائِيلُ، فَيَنْتَهِي جِبْرَائِيلُ بِالْوَحْيِ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ ". حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ...) الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُوحِيَ إِلَى مُحَمَّدٍ، دَعَا جِبْرِيلَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ رَبُّنَا بِالْوَحْيِ، كَانَ صَوْتُهُ كَصَوْتِ الْحَدِيدِ عَلَى الصَّفَا، فَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَوْتَ الْحَدِيدِ خَرُّوا سُجَّدًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِمْ جِبْرَائِيلُ بِالرِّسَالَةِ رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَقَالُوا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} وَهَذَا قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ...) إِلَى (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) قَالَ: لَمَّا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا الرَّسُولَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَبَعَثَ بِالْوَحْيِ، سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ صَوْتَ الْجَبَّارِ يَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ فَلَمَّا كُشِفَ عَنْ قُلُوبِهِمْ سُئِلُوا عَمَّا قَالَ اللَّهُ فَقَالُوا الْحَقَّ وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا وَأَنَّهُ مُنْجِزٌ مَا وَعَدَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَصَوْتُ الْوَحْيِ كَصَوْتِ الْحَدِيدِ عَلَى الصَّفَا فَلَمَّا سَمِعُوهُ خَرُّوا سُجَّدًا، فَلَمَّا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ} إِلَى قَوْلِهِ (فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا أَبُو عَامِرٍ قَالَ: ثنا قُرَّةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ فِي قَوْلِهِ (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ...) الْآيَةَ، قَالَ: الْوَحْيُ يَنْـزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِذَا قَضَاهُ {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) قَالَ: إِنَّ الْوَحْيَ إِذَا قُضِيَ فِي زَوَايَا السَّمَاءِ، قَالَ: مِثْلَ وَقْعِ الْفُولَاذِ عَلَى الصَّخْرَةِ، قَالَ: فَيُشْفِقُونَ لَا يَدْرُونَ مَا حَدَثَ فَيَفْزَعُونَ، فَإِذَا مَرَّتْ بِهِمُ الرُّسُلُ {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}. وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّنْ قَالَ: الْمَوْصُوفُونَ بِذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ، إِنَّمَا يُفُزِّعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَزَعُهُمْ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ الَّذِي يَقْضِيهِ حَذَرًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قِيَامَ السَّاعَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} الْآيَةَ، قَالَ: يُوحِي اللَّهُ إِلَى جِبْرَائِيلَ فَتَفْرَقُ الْمَلَائِكَةُ، أَوْ تُفَزَّعُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ، فَإِذَا جُلِيَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ مَلَائِكَةِ السَّمَاوَاتِ إِذَا مَرَّتْ بِهَا الْمُعَقِّبَاتُ فَزَعًا أَنْ يَكُونَ حَدَثَ أَمْرُ السَّاعَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ...) الْآيَةَ، زَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُعَقِّبَاتِ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ إِلَى الْأَرْضِ يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ، إِذَا أَرْسَلَهُمُ الرَّبُّ فَانْحَدَرُوا سُمِعَ لَهُمْ صَوْتٌ شَدِيدٌ، فَيَحْسَبُ الَّذِينَ هُمْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ، فَخَرُّوا سُجَّدًا، وَهَكَذَا كَلَّمَا مَرُّوا عَلَيْهِمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ خَوْفِ رَبِّهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمَوْصُوفُونَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ، قَالُوا: وَإِنَّمَا يُفَزِّعُ الشَّيْطَانُ عَنْ قُلُوبِهِمْ، قَالَ: وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْمَنِيَّةِ بِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) قَالَ: فُزِّعَ الشَّيْطَانُ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَفَارَقَهُمْ وَأَمَانِيَهُمْ، وَمَا كَانَ يُضِلُّهُمْ {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} قَالَ: وَهَذَا فِي بَنِي آدَمَ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ أَقَرُّوا بِهِ حِينَ لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْإِقْرَارُ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّعْبِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِصِحَّةِ الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَأْيِيدِهِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْنَى الْكَلَامِ: لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ، فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ فُزِّعَ لِسَمَاعِهِ إِذْنَهُ، حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَجُلِيَ عَنْهَا، وَكُشِفَ الْفَزَعُ عَنْهُمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: الْحَقَّ، (وَهُوَ الْعَلِيُّ) عَلَى كُلِّ شَيْءٍ (الْكَبِيرُ) الَّذِي لَا شَيْءَ دُونَهُ. وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ "فُزِّعَ" فِي مَعْنَيَيْنِ فَتَقُولُ لِلشُّجَاعِ الَّذِي بِهِ تَنْـزِلُ الْأُمُورُ الَّتِي يَفْزَعُ مِنْهَا: هُوَ مُفَزَّعٌ، وَتَقُولُ لِلْجَبَانِ الَّذِي يَفْزَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: إِنَّهُ لَمُفَزَّعٌ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَقْضِي لَهُ النَّاسُ فِي الْأُمُورِ بِالْغَلَبَةِ عَلَى مَنْ نَازَلَهُ فِيهَا: هُوَ مُغَلِّبٌ، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ غَالِبًا، وَتَقُولُ لِلرَّجُلِ أَيْضًا الَّذِي هُوَ مَغْلُوبٌ أَبَدًا: مُغَلَّبٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ؛ فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ أَجْمَعُونَ (فُزِّعَ) بِالزَّايِ وَالْعَيْنِ عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ (حَتَّى إِذَا فُرِغَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) بِالرَّاءِ وَالْغَيْنِ عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ تَوْجِيهُ مَعْنَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ ذَلِكَ كَذَلِكَ، إِلَى (حَتَّى إِذَا فُرِغَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) فَصَارَتْ فَارِغَةً مِنَ الْفَزَعِ الَّذِي كَانَ حَلَّ بِهَا، ذُكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ (فُزِعَ) بِمَعْنَى: كَشَفَ اللَّهُ الْفَزَعَ عَنْهَا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ الْقِرَاءَةُ بِالزَّايِ وَالْعَيْنِ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ وَأَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَيْهَا، وَلِصِحَّةِ الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَأْيِيدِهَا، وَالدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِإِنْـزَالِهِ الْغَيْثَ عَلَيْكُمْ مِنْهَا حَيَاةً لِحُرُوثِكُمْ، وَصَلَاحًا لِمَعَايِشِكُمْ، وَتَسْخِيرِهِ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ لِمَنَافِعِكُمْ، وَمَنَافِعِ أَقْوَاتِكُمْ، وَالْأَرْضَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْهَا أَقْوَاتَكُمْ وَأَقْوَاتَ أَنْعَامِكُمْ، وَتَرَكَ الْخَبَرَ عَنْ جَوَابِ الْقَوْمِ اسْتِغْنَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَهُ، وَهُوَ: فَإِنْ قَالُوا: لَا نَدْرِي، فَقُلْ: الَّذِي يَرْزُقُكُمْ ذَلِكَ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ: يَقُولُ: قُلْ لَهُمْ: إِنَّا لَعَلَى هَدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ، أَوْ إِنَّكُمْ عَلَى ضَلَالٍ أَوْ هُدًى. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} قَالَ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ لِلْمُشْرِكِينَ، وَاللَّهِ مَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، إِنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ لَمُهْتَدٍ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَإِنَّا لَعَلَى هَدًى وَإِنَّكُمْ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّهِيدِيُّ قَالَ: ثنا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَزِيَادٍ فِي قَوْلِهِ {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} قَالَ: إِنَّا لَعَلَى هَدًى، وَإِنَّكُمْ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ دُخُولِ "أَوْ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ: لَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ شَكٌّ وَلَكِنَّ هَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُهْتَدِي، قَالَ: وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ: أَحَدُنَا ضَارِبٌ صَاحِبَهُ. وَلَا يَكُونُ فِيهِ إِشْكَالٌ عَلَى السَّامِعِ أَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الضَّارِبُ. وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّا لَعَلَى هَدًى، وَإِنَّكُمْ إِيَّاكُمْ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَضَعُ "أَوْ" فِي مَوْضِعِ وَاوِ الْمُوَالَاةِ، قَالَ جَرِيرٌ: أثَعْلَبَـةَ الْفَـوَارِسِ أَوْ رِيَاحَـا *** عَـدَلْتَ بِهِـمْ طُهَيَّـةَ وَالْخِشَـابَا قَالَ: يَعْنِي: ثَعْلَبَةَ وَرِيَاحًا، قَالَ: وَقَدْ تَكَلَّمَ بِهَذَا مَنْ لَا يُشَكُّ فِي دِينِهِ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى، وَأُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ، فَيُقَالُ: هَذَا وَإِنْ كَانَ كَلَامًا وَاحِدًا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ، فَقَالَ: هَذَا لَهُمْ، وَقَالَ: فَـإِنْ يَـكُ حُـبُّهُمْ رُشْـدًا أُصِبْـهُ *** وَلَسْـتُ بِمُخْـطِئٍ إِنْ كَـانَ غَيَّـا وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ: مَعْنَى "أَوْ" وَمَعْنَى الْوَاوِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي الْمَعْنَى، غَيْرَ أَنَّ الْقَرِينَةَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، لَا تَكُونُ "أَوْ" بِمَنْـزِلَةِ الْوَاوِ وَلَكِنَّهَا تَكُونُ فِي الْأَمْرِ الْمُفَوَّضِ، كَمَا تَقُولُ: إِنْ شِئْتَ فَخُذْ دِرْهَمًا أَوِ اثْنَيْنِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ اثْنَيْنِ أَوْ وَاحِدًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ثَلَاثَةً. قَالَ: وَهُوَ فِي قَوْلِ مَنْ لَا يُبْصِرُ الْعَرَبِيَّةَ، وَيَجْعَلُ "أَوْ" بِمَنْـزِلِةِ الْوَاوِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ثَلَاثَةً، لِأَنَّهُ فِي قَوْلِهِمْ بِمَنْـزِلَةِ قَوْلِكَ: خُذْ دِرْهَمًا أَوِ اثْنَيْنِ، قَالَ: وَالْمَعْنَى فِي (إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ) إِنَّا لَضَالُّونَ أَوْ مُهْتَدُونَ، وَإِنَّكُمْ أَيْضًا لَضَالُّونَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَهُ هُوَ الْمُهْتَدِي وَأَنَّ غَيْرَهُ الضَّالُّ. قَالَ: وَأَنْتَ تَقُولُ فِي الْكَلَامِ لِلرَّجُلِ يُكَذِّبُكَ: وَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَنَا لَكَاذِبٌ، وَأَنْتَ تَعْنِيهِ، وَكَذَّبْتَهُ تَكْذِيبًا غَيْرَ مَكْشُوفٍ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ، أَنْ يُوَجَّهَ الْكَلَامُ إِلَى أَحْسَنِ مَذَاهِبِهِ إِذَا عُرِفَ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِمَنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَدِمَ فُلَانٌ، وَهُوَ كَاذِبٌ، فَيَقُولُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ قُلْ: فِيمَا أَظُنُّ، فَيُكَذِّبُهُ بِأَحْسَنِ تَصْرِيحِ التَّكْذِيبِ. قَالَ: وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولُوا: قَاتَلَهُ اللَّهُ، ثُمَّ يُسْتَقْبَحُ فَيَقُولُونَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ، وَكَاتَعُهُ اللَّهُ. قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ: وَيْحَكَ وَوَيْسَكَ، إِنَّمَا هِيَ فِي مَعْنَى وَيْلَكَ، إِلَّا أَنَّهَا دُونَهَا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ بِتَكْذِيبِ مَنْ أَمَرَهُ بِخِطَابِهِ بِهَذَا الْقَوْلِ بِأَجْمَلَ التَّكْذِيبِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبٍ يُخَاطِبُهُ، وَهُوَ يُرِيدُ تَكْذِيبَهُ فِي خَبَرٍ لَهُ: أَحَدُنَا كَاذِبٌ، وَقَائِلُ ذَلِكَ يَعْنِي صَاحِبَهُ لَا نَفْسَهُ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى صُيِّرَ الْكَلَامُ بـ "أَوْ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ: أَحَدُ فَرِيقَيْنَا عَلَى هُدًى وَالْآخَرُ عَلَى ضَلَالٍ، لَا تُسْأَلُونَ أَنْتُمْ عَمَّا أَجْرَمْنَا نَحْنُ مِنْ جُرْمٍ، وَلَا نُسْأَلُ نَحْنُ عَمَّا تَعْمَلُونَ أَنْتُمْ مِنْ عَمَلٍ، قُلْ لَهُمْ: يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَهُ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ. يَقُولُ: ثُمَّ يَقْضِي بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَيَتَبَيَّنُ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُهْتَدِي مِنَّا مِنَ الضَّالِّ (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) يَقُولُ: وَاللَّهُ الْقَاضِي الْعَلِيمُ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ، لِأَنَّهُ لَا تَخْفَى عَنْهُ خَافِيةٌ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شُهُودٍ تُعَرِّفُهُ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا) يَوْمَ الْقِيَامَةِ (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا) أَيْ: يَقْضِي بَيْنَنَا. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) يَقُولُ: الْقَاضِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْآلِهَةَ وَالْأَصْنَامَ: أَرَوْنِيَ أَيُّهَا الْقَوْمُ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمُوهُمْ بِاللَّهِ فَصَيَّرْتُمُوهُمْ لَهُ شُرَكَاءَ فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهُمْ مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ (كُلَّا) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَذَبُوا لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا وَصَفُوا، وَلَا كَمَا جَعَلُوا وَقَالُوا مِنْ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا، بَلْ هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي مُلْكِهِ، الْعَزِيزُ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ أَشْرَكَ بِهِ مِنْ خَلْقِهِ، الْحَكِيمُ فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ مِنْ قَوْمِكَ خَاصَّةً، وَلَكِنَّا أَرْسَلْنَاكَ كَافَّةً لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ الْعَرَبَ مِنْهُمْ وَالْعَجَمَ، وَالْأَحْمَرَ وَالْأَسْوَدَ، بَشِيرًا مَنْ أَطَاعَكَ، وَنَذِيرًا مَنْ كَذَّبَكَ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ كَذَلِكَ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) قَالَ: أَرْسَلَ اللَّهُ مُحَمَّدًا إِلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ لَهُ. ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَنَا سَابِقُ الْعَرَبِ وَصُهَيْبٌ سَابِقُ الرُّومِ وَبِلَالٌ سَابِقُ الْحَبَشَةِ وَسَلْمَانُ سَابِقُ فَارِسَ ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ إِذَا سَمِعُوا وَعِيدَ اللَّهِ الْكَفَّارَ وَمَا هُوَ فَاعِلٌ بِهِمْ فِي مَعَادِهِمْ مِمَّا أَنْـزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) جَائِيًا، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ هُوَ كَائِنٌ (إِنْ كُنْتُمْ) فِيمَا تَعِدُونَنَا مِنْ ذَلِكَ (صَادِقِينَ) أَنَّهُ كَائِنٌ، قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: (قُلْ) لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ (لَكُمْ) أَيُّهَا الْقَوْمُ (مِيعَادُ يَوْمٍ) هُوَ آتِيكُمْ (لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ) إِذَا جَاءَكُمْ (سَاعَةً) فَتُنْظَرُوا لِلتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ (وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ) قَبْلَهُ بِالْعَذَابِ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَكُمْ ذَلِكَ أَجَلًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ (لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ) الَّذِي جَاءَنَا بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِالْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} قَالَ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ وَالْأَنْبِيَاءِ. وَقَوْلُهُ {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} يَتَلَاوَمُونَ، يُحَاوِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؛ يَقُولُ الْمُسْتَضْعَفُونَ، كَانُوا فِي الدُّنْيَا، لِلَّذِينِ كَانُوا عَلَيْهِمْ فِيهَا يَسْتَكْبِرُونَ: لَوْلَا أَنْتُمْ أَيُّهَا الرُّؤَسَاءُ وَالْكُبَرَاءُ فِي الدُّنْيَا لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) فِي الدُّنْيَا، فَرَأَسُوا فِي الضَّلَالَةِ وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) فِيهَا فَكَانُوا أَتْبَاعًا لِأَهْلِ الضَّلَالَةِ مِنْهُمْ إِذْ قَالُوا لَهُمْ (لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ): (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى) وَمَنَعْنَاكُمْ مِنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ (بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ) مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُبَيِّنُ لَكُمْ (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) فَمَنَعَكُمْ إِيثَارُكُمُ الْكُفْرَ بِاللَّهِ عَلَى الْإِيمَانِ مِنِ اتِّبَاعِ الْهُدَى، وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) مِنَ الْكَفَرَةِ بِاللَّهِ فِي الدُّنْيَا، فَكَانُوا أَتْبَاعًا لِرُؤَسَائِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) فِيهَا، فَكَانُوا لَهُمْ رُؤَسَاءَ (بَلْ مَكْرُ) كُمْ لَنَا بـ (اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) صَدَّنَا عَنِ الْهُدَى {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ} أَمْثَالًا وَأَشْبَاهًا فِي الْعِبَادَةِ وَالْأُلُوهَةِ، فَأُضِيفَ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَكْرِ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِالْمُسْتَضْعَفِينَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، عَلَى اتِّسَاعِ الْعَرَبِ فِي الَّذِي قَدْ عُرِفَ مَعْنَاهَا فِيهِ مِنْ مَنْطِقِهَا، مِنْ نَقْلِ صِفَةِ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ، فَتَقُولُ لِلرَّجُلِ: يَا فُلَانُ نَهَارَكَ صَائِمٌ وَلَيْلَكَ قَائِمٌ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَنِمْتِ وَمَا لَيْلُ الْمَطِيِّ بِنَائِمِ *** وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ مَضَى بَيَانُنَا لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} يَقُولُ: بَلْ مَكْرُكُمْ بِنَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَيُّهَا الْعُظَمَاءُ الرُّؤَسَاءُ حَتَّى أَزَلْتُمُونَا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ. وَقَدَ ذُكِرَ فِي تَأْوِيلِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: ثنا ابْنُ يَمَانٍ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) قَالَ: مَرُّ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَقَوْلُهُ (إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ) يَقُولُ: حِينَ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ. وَقَوْلُهُ (وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا) يَقُولُ: شُرَكَاءَ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ (وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا) شُرَكَاءَ. قَوْلُهُ {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} يَقُولُ: وَنَدِمُوا عَلَى مَا فَرَّطُوا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا حِينَ عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ الَّذِي أَعَدَّهُ لَهُمْ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ) بَيْنَهُمْ (لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ). قَوْلُهُ {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَغُلَّتْ أَيْدِي الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ فِي جَهَنَّمَ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ فِي جَوَامِعَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِاللَّهِ فِي الدُّنْيَا يَكْفُرُونَ، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِمْ إِلَّا ثَوَابًا لِأَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ الَّتِي كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَعْمَلُونَهَا، وَمُكَافَأَةً لَهُمْ عَلَيْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا بَعَثْنَا إِلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ نَذِيرًا يُنْذِرُهُمْ بَأْسَنَا أَنْ يَنْـزِلَ بِهِمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ إِيَّانَا، إِلَّا قَالَ كُبَرَاؤُهَا وَرُؤَسَاؤُهَا فِي الضَّلَالَةِ كَمَا قَالَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَهُ: إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ مِنَ النِّذَارَةِ، وَبُعِثْتُمْ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ، كَافِرُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} قَالَ: هُمْ رُءُوسُهُمْ وَقَادَتُهُمْ فِي الشَّرِّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ أَهْلُ الِاسْتِكْبَارِ عَلَى اللَّهِ مِنْ كُلِّ قَرْيَةٍ أَرْسَلْنَا فِيهَا نَذِيرًا لِأَنْبِيَائِنَا وَرُسُلِنَا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ فِي الْآخِرَةِ بِمُعَذَّبِينَ لِأَنَّ اللَّهَ لَوْ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الْمِلَّةِ وَالْعَمَلِ لَمْ يُخَوِّلْنَا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ، وَلَمْ يَبْسُطْ لَنَا فِي الرِّزْقِ، وَإِنَّمَا أَعْطَانَا مَا أَعْطَانَا مِنْ ذَلِكَ لِرِضَاهُ أَعْمَالَنَا، وَآثَرَنَا بِمَا آثَرَنَا عَلَى غَيْرِنَا لِفَضْلِنَا، وَزُلْفَةً لَنَا عِنْدَهُ، يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ (إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ) مِنَ الْمَعَاشِ وَالرِّيَاشِ فِي الدُّنْيَا (لِمَنْ يَشَاءُ) مِنْ خَلْقِهِ (وَيَقْدِرُ) فَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ لَا لِمَحَبَّةٍ فِيمَنْ يَبْسُطُ لَهُ ذَلِكَ وَلَا خَيْرٍ فِيهِ وَلَا زُلْفَةٍ لَهُ اسْتَحَقَّ بِهَا مِنْهُ، وَلَا لِبُغْضٍ مِنْهُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا مَقْتٍ، وَلَكِنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِحْنَةً لِعِبَادِهِ وَابْتِلَاءً، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ذَلِكَ اخْتِبَارًا لِعِبَادِهِ وَلَكِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ مَحَبَّةٌ لِمَنْ بَسَطَ لَهُ وَمَقْتٌ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} الْآيَةَ، قَالَ: قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَتْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا)، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، قَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ عَنَّا رَاضِيًا لَمْ يُعْطِنَا هَذَا، كَمَا قَالَ قَارُونُ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ رَضِيَ بِي وَبِحَالِي مَا أَعْطَانِي هَذَا، قَالَ: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ} إِلَى آخَرِ الْآيَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًافَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَا أَمْوَالُكُمُ الَّتِي تَفْتَخِرُونَ بِهَا أَيُّهَا الْقَوْمُ عَلَى النَّاسِ وَلَا أَوْلَادُكُمُ الَّذِينَ تَتَكَبَّرُونَ بِهِمْ، بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ مِنَّا قُرْبَةً. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ (عِنْدَنَا زُلْفَى) قَالَ: قُرْبَى. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} لَا يُعْتَبَرُ النَّاسُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَإِنَّ الْكَافِرَ قَدْ يُعْطَى الْمَالَ، وَرُبَّمَا حُبِسَ عَنِ الْمُؤْمِنِ. وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} وَلَمْ يَقُلْ بِاللَّتَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ، وَهُمَا نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ، لِأَنَّهُ ذُكِرَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُمَا جَمْعٌ يَصْلُحُ فِيهِ الَّتِي، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: أَرَادَ بِذَلِكَ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ لَمْ يَبْعُدْ قَوْلُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: نَحْـنُ بِمَـا عِنْدَنَـا وَأَنْـتَ بِمَـا *** عِنْـدَكَ رَاضٍ وَالـرَّأْيُ مُخْـتَلِفُ وَلَمْ يَقُلْ رَاضِيَانِ. وَقَوْلُهُ (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ تُقَرِّبُهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ بِطَاعَتِهِمُ اللَّهَ فِي ذَلِكَ وَأَدَائِهِمْ فِيهِ حَقَّهُ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى دُونَ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) قَالَ: لَمْ تَضُرُّهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَرَأَ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فَالْحُسْنَى: الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ: مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يُحَاسِبْهُمْ بِهِ، كَمَا حَاسَبَ الْآخَرِينَ، فَمَنْ حَمَلَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ نَصَبَ بِوُقُوعِ تُقَرِّبُ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ "مَنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا هُوَ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا. وَقَوْلُهُ (فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ) يَقُولُ: فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ الضَّعْفُ مِنَ الثَّوَابِ، بِالْوَاحِدَةِ عَشْرٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} قَالَ: بِأَعْمَالِهِمْ، الْوَاحِدُ عَشْرٌ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالْوَاحِدِ سَبْعُمِائَةٍ. وَقَوْلُهُ (فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) يَقُولُ: وَهُمْ فِي غُرُفَاتِ الْجَنَّاتِ آمِنُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي آيَاتِنَا، يَعْنِي: فِي حُجَجِنَا وَآيِ كِتَابِنَا، يَبْتَغُونَ إِبْطَالَهُ وَيُرِيدُونَ إِطْفَاءَ نُورِهِ مُعَاوِنِينَ، يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَفُوتُونَنَا بِأَنْفُسِهِمْ وَيُعْجِزُونَنَا (أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) يَعْنِي: فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ مُحْضَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ فَيُوَسِّعُهُ عَلَيْهِ تَكْرِمَةً لَهُ وَغَيْرَ تَكْرِمَةٍ، وَيَقْدِرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ فَيُضَيِّقُهُ وَيَقْتِرُهُ إِهَانَةً لَهُ وَغَيْرَ إِهَانَةٍ، بَلْ مِحْنَةً وَاخْتِبَارًا {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} يَقُولُ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ نَفَقَةٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُخْلِفُهَا عَلَيْكُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا يَحْيَى قَالَ: ثنا سُفْيَانُ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) قَالَ: مَا كَانَ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ. وَقَوْلُهُ (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) يَقُولُ: وَهُوَ خَيْرُ مَنْ قِيلَ إِنَّهُ يَرْزُقُ وَوُصِفَ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُوصَفُ بِذَلِكَ مَنْ دُونَهُ فَيُقَالُ: فُلَانٌ يَرْزُقُ أَهْلَهُ وَعِيَالَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَوْمَ نَحْشُرُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ بِاللَّهِ جَمِيعًا، ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: أَهَؤُلَاءِ كَانُوا يَعْبُدُونَكُمْ مِنْ دُونِنَا؟ فَتَتَبَرَّأُ مِنْهُمُ الْمَلَائِكَةُ (قَالُوا سُبْحَانَكَ) رَبَّنَا؛ تَنْـزِيهًا لَكَ وَتَبْرِئَةً مِمَّا أَضَافَ إِلَيْكَ هَؤُلَاءِ مِنَ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ (أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ) لَا نَتَّخِذُ وَلِيًّا دُونَكَ (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ). وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} اسْتِفْهَامٌ كَقَوْلِهِ لِعِيسَى {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. وَقَوْلُهُ (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) يَقُولُ: أَكْثَرُهُمْ بِالْجِنِّ مُصَدِّقُونَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ أَيُّهَا الْمَلَائِكَةُ لِلَّذِينِ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَعْبُدُونَكُمْ نَفْعًا يَنْفَعُونَكُمْ بِهِ، وَلَا ضَرًّا يَنَالُونَكُمْ بِهِ أَوْ تَنَالُونَهُمْ بِهِ (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) يَقُولُ: وَنَقُولُ لِلَّذِينِ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ فَوَضَعُوا الْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَجَعَلُوهَا لِغَيْرِ مَنْ تَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لَهُ (ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا) فِي الدُّنْيَا (تُكَذِّبُونَ) فَقَدْ وَرَدْتُمُوهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ آيَاتُ كِتَابِنَا بَيِّنَاتٍ، يَقُولُ: وَاضِحَاتٍ أَنَّهُنَّ حَقٌّ مِنْ عِنْدِنَا {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} يَقُولُ: قَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ: لَا تَتَّبِعُوا مُحَمَّدًا، فَمَا هُوَ إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ مِنَ الْأَوْثَانِ، وَيُغَيِّرَ دِينَكُمْ وَدِينَ آبَائِكُمْ (وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ: مَا هَذَا الَّذِي تَتْلُو عَلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ، يَعْنُونُ الْقُرْآنَ، إِلَّا إِفْكٌ، يَقُولُ: إِلَّا كَذِبٌ مُفْتَرًى: يَقُولُ: مُخْتَلَقٌ مُتَخَرَّصٌ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَقَالَ الْكُفَّارُ لِلْحَقِّ، يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا جَاءَهُمْ، يَعْنِي: لَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، يَقُولُ: مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، يُبِينُ لِمَنْ رَآهُ وَتَأَمَّلَهُ أَنَّهُ سِحْرٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا أَنْـزَلْنَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْقَائِلِينَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، بِمَا يَقُولُونَ مِنْ ذَلِكَ كُتُبًا يَدْرُسُونَهَا، يَقُولُ: يَقْرَءُونَهَا. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا) أَيْ: يَقْرَءُونَهَا (وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) يَقُولُ: وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَا يَقُولُونَ وَيَعْمَلُونَ قَبْلَكَ مِنْ نَبِيٍّ يُنْذِرُهُمْ بَأْسَنَا عَلَيْهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ كِتَابًا قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَلَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يَقُولُ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ رُسُلَنَا وَتَنْـزِيلَنَا (وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ) يَقُولُ: وَلَمْ يَبْلُغْ قَوْمَكَ يَا مُحَمَّدُ عُشْرَ مَا أَعْطَيْنَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْأَيْدِي وَالْبَطْشِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ (وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ) مِنَ الْقُوَّةِ فِي الدُّنْيَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ (وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ) يَقُولُ: مَا جَاوَزُوا مِعْشَارَ مَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ أَعْطَى الْقَوْمَ مَا لَمْ يُعْطِكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ (وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ) قَالَ: مَا بَلَغَ هَؤُلَاءِ، أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِعْشَارَ مَا آتَيْنَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمَا أَعْطَيْنَاهُمْ مِنَ الدُّنْيَا، وَبَسَطْنَا عَلَيْهِمْ (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) يَقُولُ: فَكَذَّبُوا رُسُلِي فِيمَا أَتَوْهُمْ بِهِ مِنْ رِسَالَتِي، فَعَاقَبْنَاهُمْ بِتَغْيِيرِنَا بِهِمْ مَا كُنَّا آتَيْنَاهُمْ مِنَ النِّعَمِ، فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كَانَ نَكِيرِ، يَقُولُ: كَيْفَ كَانَ تَغْيِيرِي بِهِمْ وَعُقُوبَتِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ: إِنَّمَا أَعِظُكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ بِوَاحِدَةٍ وَهِيَ طَاعَةُ اللَّهِ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ (إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ) قَالَ: بِطَاعَةِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى) يَقُولُ: وَتِلْكَ الْوَاحِدَةُ الَّتِي أَعِظُكُمْ بِهَا هِيَ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، (وَفُرَادَى) فُرَادَى فَأَنْ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ تَرْجَمَةً عَنِ الْوَاحِدَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثني أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى) قَالَ: وَاحِدًا وَاثْنَيْنِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} رَجُلًا وَرَجُلَيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قِيلَ: إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ، وَتِلْكَ الْوَاحِدَةُ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ بِالنَّصِيحَةِ وَتَرْكِ الْهَوَى. (مَثْنَى) يَقُولُ: يَقُومُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ مَعَ آخَرَ فَيَتَصَادَقَانِ عَلَى الْمُنَاظَرَةِ: هَلْ عَلِمْتُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُنُونًا قَطُّ؟ ثُمَّ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، فَيَتَفَكَّرُ وَيَعْتَبِرُ فَرْدًا هَلْ كَانَ ذَلِكَ بِهِ؟ فَتَعْلَمُوا حِينَئِذٍ أَنَّهُ نَذِيرٌ لَكُمْ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) يَقُولُ: لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ. وَقَوْلُهُ (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) يَقُولُ: مَا مُحَمَّدٌ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ يُنْذِرُكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ بِاللَّهِ عِقَابُهُ أَمَامَ عَذَابِ جَهَنَّمَ قَبْلَ أَنْ تَصْلَوْهَا، وَقَوْلُهُ: هُوَ كِنَايَةُ اسْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ الْمُكَذِّبِيكَ، الرَّادِّينَ عَلَيْكَ مَا أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ: مَا أَسْأَلُكُمْ مِنْ جُعْلٍ عَلَى إِنْذَارِيكُمْ عَذَابَ اللَّهِ، وَتَخْوِيفِكُمْ بِهِ بِأْسَهُ، وَنَصِيحَتِي لَكُمْ فِي أَمْرِي إِيَّاكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، فَهُوَ لَكُمْ لَا حَاجَةَ لِي بِهِ. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَسْأَلْكُمْ عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا فَتَتَّهِمُونِي، وَتَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا دَعَوْتُكُمْ إِلَى اتِّبَاعِي لِمَالٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أَيْ: جُعْلٍ (فَهُوَ لَكُمْ) يَقُولُ: لَمْ أَسْأَلْكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ جُعْلًا. وَقَوْلُهُ (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) يَقُولُ: مَا ثَوَابِي عَلَى دُعَائِكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَتَبْلِيغِكُمْ رِسَالَتَهُ، إِلَّا عَلَى اللَّهِ (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) يَقُولُ: وَاللَّهُ عَلَى حَقِيقَةِ مَا أَقُولُ لَكُمْ شَهِيدٌ يَشْهَدُ لِي بِهِ، وَعَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ) يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ (إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) وَهُوَ الْوَحْيُ، يَقُولُ: يُنْـزِلُهُ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَقْذِفُهُ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يَقُولُ: عَلَّامُ مَا يَغِيبُ عَنِ الْأَبْصَارِ، وَلَا مَظْهَرَ لَهَا، وَمَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ، وَذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الرَّبِّ، غَيْرَ أَنَّهُ رُفِعَ لِمَجِيئِهِ بَعْدَ الْخَبَرِ، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ إِذَا وَقَعَ النَّعْتُ بَعْدَ الْخَبَرِ، فِي أَنْ أَتْبَعُوا النَّعْتَ إِعْرَابَ مَا فِي الْخَبَرِ، فَقَالُوا: إِنَّ أَبَاكَ يَقُومُ الْكَرِيمُ، فَرُفِعَ الْكَرِيمُ عَلَى مَا وَصَفْتُ، وَالنَّصْبُ فِيهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ نَعْتٌ لِلْأَبِ، فَيَتْبَعُ إِعْرَابَهُ (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ) يَقُولُ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: جَاءَ الْقُرْآنُ وَوَحْيُ اللَّهِ (وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ) يَقُولُ: وَمَا يُنْشِئُ الْبَاطِلُ خَلْقًا، وَالْبَاطِلُ هُوَ فِيمَا فَسَّرَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ: إِبْلِيسُ (وَمَا يُعِيدُ) يَقُولُ: وَلَا يُعِيدُهُ حَيًّا بَعْدَ فَنَائِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ (إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ): أَيْ بِالْوَحْيِ (عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ) أَيِ: الْقُرْآنُ (وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) وَالْبَاطِلُ: إِبْلِيسُ، أَيْ: مَا يَخْلُقُ إِبْلِيسُ أَحَدًا وَلَا يَبْعَثُهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} فَقَرَأَ (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ...) إِلَى قَوْلِهِ (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) قَالَ: يُزْهِقُ اللَّهُ الْبَاطِلَ، وَيُثْبِتُ اللَّهُ الْحَقَّ الَّذِي دَمَغَ بِهِ الْبَاطِلَ، يَدْمَغُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ، فَيَهْلِكُ الْبَاطِلُ وَيَثْبُتُ الْحَقُّ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ: إِنْ ضَلَلْتُ عَنِ الْهُدَى فَسَلَكْتُ غَيْرَ طَرِيقِ الْحَقِّ، إِنَّمَا ضَلَالِي عَنِ الصَّوَابِ عَلَى نَفْسِي، يَقُولُ: فَإِنَّ ضَلَالِي عَنِ الْهُدَى عَلَى نَفْسِي ضُرُّهُ، (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ) يَقُولُ: وَإِنِ اسْتَقَمْتُ عَلَى الْحَقِّ (فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) يَقُولُ: فَبِوَحْيِ اللَّهِ الَّذِي يُوحِي إِلَيَّ، وَتَوْفِيقِهِ لِلِاسْتِقَامَةِ عَلَى مَحَجَّةِ الْحَقِّ وَطَرِيقِ الْهُدَى. وَقَوْلُهُ (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) يَقُولُ: إِنَّ رَبِّي سَمِيعٌ لِمَا أَقُولُ لَكُمْ حَافِظٌ لَهُ، وَهُوَ الْمُجَازِي لِي عَلَى صِدْقِي فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنِّي غَيْرُ بَعِيدٍ، فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ سَمَاعَ مَا أَقُولُ لَكُمْ، وَمَا تَقُولُونَ، وَمَا يَقُولُهُ غَيْرُنَا، وَلَكِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ يَسْمَعُ كُلَّ مَا يَنْطِقُ بِهِ، أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ إِذْ فَزِعُوا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهَا هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} قَالَ: وَعُنِيَ بِقَوْلِهِ (إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) عِنْدَ نُزُولِ نِقْمَةِ اللَّهِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ...) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: هَذَا مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ (وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) قَالَ: هَذَا عَذَابُ الدُّنْيَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ...) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، قَالَ: هَؤُلَاءِ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ: وَهُمُ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ، أَهْلُ بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: عُنِيَ بِذَلِكَ جَيْشٌ يُخْسَفُ بِهِمْ بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ) قَالَ: هُمُ الْجَيْشُ الَّذِي يُخْسَفُ بِهِمْ بِالْبَيْدَاءِ، يَبْقَى مِنْهُمْ رَجُلٌ يُخْبِرُ النَّاسَ بِمَا لَقِيَ أَصْحَابُهُ. حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ رُوَّادِ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ: ثنا أَبِي قَالَ: ثنا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: ثني مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ: سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ فِتْنَةً تَكُونُ بَيْنَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْهِمُ السُّفْيَانِيُّ مِنَ الْوَادِي الْيَابِسِ فِي فَوْرَةِ ذَلِكَ، حَتَّى يَنْـزِلَ دِمَشْقَ، فَيَبْعَثُ جَيْشَيْنِ؛ جَيْشًا إِلَى الْمَشْرِقِ، وَجَيْشًا إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتَّى يَنْـزِلُوا بِأَرْضِ بَابِلَ فِي الْمَدِينَةِ الْمَلْعُونَةِ وَالْبُقْعَةِ الْخَبِيثَةِ، فَيَقْتُلُونَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَيَبْقُرُونَ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ امْرَأَةٍ، وَيَقْتُلُونَ بِهَا ثَلَاثَمِائَةِ كَبْشٍ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ، ثُمَّ يَنْحَدِرُونَ إِلَى الْكُوفَةِ فَيُخَرِّبُونَ مَا حَوْلَهَا، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى الشَّأْمِ، فَتَخْرُجُ رَايَةُ هَذَا مِنَ الْكُوفَةِ، فَتَلْحَقُ ذَلِكَ الْجَيْشَ مِنْهَا عَلَى الْفِئَتَيْنِ، فَيَقْتُلُونَهُمْ لَا يُفْلِتُ مِنْهُمْ مُخْبَرٌ، وَيَسْتَنْقِذُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ السَّبْيِ وَالْغَنَائِمِ، وَيُخَلِّي جَيْشَهُ التَّالِي بِالْمَدِينَةِ، فَيَنْهَبُونَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامِ وَلَيَالِيَهَا، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى مَكَّةَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ، بَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ، فَيَقُولُ: يَا جِبْرَائِيلُ اذْهَبْ فَأَبِدْهُمْ، فَيَضْرِبُهَا بِرِجْلِهِ ضَرْبَةً يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ...) الْآيَةَ، وَلَا يَنْفَلِتُ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلَانِ؛ أَحَدُهُمَا بَشِيرٌ وَالْآخَرُ نَذِيرٌ، وَهُمَا مِنْ جُهَيْنَةَ، » فَلِذَلِكَ جَاءَ الْقَوْلُ: *** وَعِنْـدَ جُهَيْنَـةَ الْخَـبَرُ الْيَقِيـنُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلَانِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ رُوَّادَ بْنَ الْجِرَّاحِ، عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قِصَّةٍ ذَكَرَهَا فِي الْفِتَنِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ سَمِعْتَهُ مَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ؟ قَالَ: لَا قُلْتُ: فَقَرَأْتَهُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَا قُلْتُ: فَقُرِئَ عَلَيْهِ وَأَنْتَ حَاضِرٌ؟ قَالَ: لَا قُلْتُ: فَمَا قِصَّتُهُ فَمَا خَبَرُهُ؟ قَالَ: جَاءَنِي قَوْمٌ فَقَالُوا: مَعَنَا حَدِيثٌ عَجِيبٌ، أَوْ كَلَامٌ هَذَا مَعْنَاهُ، نَقْرَؤُهُ وَتَسْمُعُهُ، قُلْتُ لَهُمْ: هَاتُوهُ، فَقَرَءُوهُ عَلَيَّ، ثُمَّ ذَهَبُوا فَحَدَّثُوا بِهِ عَنِّي، أَوْ كَلَامٌ هَذَا مَعْنَاهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ حَدَّثَنِي بِبَعْضِ هَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدِيثًا طَوِيلًا قَالَ: رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الصُّدَائِيُّ، عَنْ شَيْخٍ عَنْ رَوَّادٍ عَنْ سُفْيَانَ بِطُولِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا فَزِعُوا عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَوْلَهُ (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا) قَالَ: فَزِعُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} حِينَ عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ مَعْقِلٍ (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ) قَالَ: أَفْزَعَهُمْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَلَمْ يَفُوتُوا. وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، وَأَشْبَهُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: وَعِيدُ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْمِهِ، لِأَنَّ الْآيَاتِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَتْ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ وَعَنْ أَسْبَابِهِمْ، وَبِوَعِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مَغَبَّتَهُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سِيَاقِ تِلْكَ الْآيَاتِ، فَلَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرًا عَنْ حَالِهِمْ أَشْبَهُ مِنْهُ بِأَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِمَا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ، فَتُعَاينُهُمْ حِينَ فَزِعُوا مِنْ مُعَايَنَتِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ (فَلَا فَوْتَ) يَقُولُ: فَلَا سَبِيلَ حِينَئِذٍ أَنْ يَفُوتُوا بِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ يُعْجِزُونَا هَرَبًا، وَيَنْجُوا مِنْ عَذَابِنَا. كَمَا حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ) يَقُولُ: فَلَا نَجَاةَ. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ قَالَ: ثنا مَرْوَانُ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} قَالَ: لَا هَرَبَ. وَقَوْلُهُ (وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) يَقُولُ: وَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِعَذَابِهِ مِنْ مَوْضِعٍ قَرِيبٍ، لِأَنَّهُمْ حَيْثُ كَانُوا مِنَ اللَّهِ قَرِيبٌ لَا يَبْعُدُونَ عَنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ حِينَ عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ: آمَنَّا بِهِ، يَعْنِي: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ (وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ) قَالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ) عِنْدَ ذَلِكَ، يَعْنِي: حِينَ عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ (وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ) بَعْدَ الْقَتْلِ، وَقَوْلُهُ (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) يَقُولُ: وَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ لَهُمُ التَّنَاوُشُ. وَاخْتَلَفَتْ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ؛ فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ (التَّنَاوُشُ) بِغَيْرِ هَمْزٍ، بِمَعْنَى التَّنَاوُلِ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ: (التَّنَاؤُشُ) بِالْهَمْزِ، بِمَعْنَى التَّنَؤُّشِ، وَهُوَ الْإِبْطَاءُ، يُقَالُ مِنْهُ: تَنَاءَشْتُ الشَّيْءَ: أَخَذْتُهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَنُشْتُهُ: أَخَذْتُهُ مِنْ قَرِيبٍ، وَمِنَ التَّنَؤُّشِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَمَنَّـى نَئِيشًـا أَنْ يَكُـونَ أَطَـاعَنِي *** وَقَـدْ حَـدَثَتْ بَعْـدَ الْأُمُـورِ أُمُـورُ وَمِنَ النَّوْشِ قَوْلُ الرَّاجِزِ: فَهِـيَ تَنُـوشُ الْحَـوْضَ نَوْشًا مِنْ عَلَا *** نَوْشًـا بِـهِ تَقْطَـعُ أَجْـوَازَ الْفَـلَا وَيُقَالُ لِلْقَوْمِ فِي الْحَرْبِ، إِذَا دَنَا بَعْضُهُمْ إِلَى الرِّمَاحِ وَلَمْ يَتَلَاقَوْا: قَدْ تَنَاوَشَ الْقَوْمُ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: وَقَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ، فِي حِينٍ لَا يَنْفَعُهُمْ قِيلُ ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) أَيْ: وَأَيْنَ لَهُمُ التَّوْبَةُ وَالرَّجْعَةُ، أَيْ: قَدْ بَعُدَتْ عَنْهُمْ، فَصَارُوا مِنْهَا كَمَوْضِعٍ بَعِيدٍ أَنْ يَتَنَاوَلُوهَا، وَإِنَّمَا وَصَفْتُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِالْبَعِيدِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: ذَلِكَ فِي الْقِيَامَةِ فَقَالَ اللَّهُ: أَنَّى لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ، وَالتَّوْبَةُ الْمَقْبُولَةُ إِنَّمَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا فَصَارَتْ بَعِيدًا مِنَ الْآخِرَةِ، فَبِأَيِّ الْقِرَاءَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْتُ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ بِالْهَمْزِ هَمَزُوا وَهُمْ يُرِيدُونَ مَعْنَى مَنْ لَمْ يَهْمِزْ، وَلَكِنَّهُمْ هَمَزُوهُ لِانْضِمَامِ الْوَاوِ فَقَلَبُوهَا، كَمَا قِيلَ: (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) فَجُعِلَتِ الْوَاوُ مِنْ وُقِّتَتْ إِذْ كَانَتْ مَضْمُومَةً هَمَزُوهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: ثنا ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ التَّمِيمِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) قَالَ: يَسْأَلُونَ الرَّدَّ وَلَيْسَ بِحِينِ رَدٍّ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا حَكَّامٌ عَنْ عَنْبَسَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ التَّمِيمِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) يَقُولُ: فَكَيْفَ لَهُمْ بِالرَّدِّ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) قَالَ: الرَّدُّ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) قَالَ: التَّنَاوُبُ (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ). حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} قَالَ: هَؤُلَاءِ قَتْلَى أَهْلِ بَدْرٍ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَقَرَأَ {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} الْآيَةَ، قَالَ: التَّنَاوُشُ: التَّنَاوُلُ، وَأَنَّى لَهُمْ تَنَاوُلُ التَّوْبَةِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ وَقَدْ تَرَكُوهَا فِي الدُّنْيَا، قَالَ: وَهَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ (وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ) بَعْدَ الْقَتْلِ (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مِكَانٍ بَعِيدٍ) وَقَرَأَ (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) قَالَ: لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَةٌ، وَقَالَ: عَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتُوبُوا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيَقْبَلُهَا اللَّهُ مِنْهُمْ، فَأَبَوْا، أَوْ يَعْرِضُونَ التَّوْبَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ، قَالَ: فَهُمْ يَعْرِضُونَهَا فِي الْآخِرَةِ خَمْسَ عَرْضَاتٍ، فَيَأْبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُمْ، قَالَ: وَالتَّائِبُ عِنْدَ الْمَوْتِلَيْسَتْ لَهُ تَوْبَةٌ {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} الْآيَةَ، وَقَرَأَ {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ قَالَ: ثنا مَرْوَانُ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فَى قَوْلٍ (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) قَالَ: وَأَنَّى لَهُمُ الرَّجْعَةُ. وَقَوْلُهُ (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) يَقُولُ: مِنْ آخِرَتِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) مِنَ الْآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ) يَقُولُ: وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا يَسْأَلُونَهُ رَبَّهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَمُعَايَنَتِهِمْ إِيَّاهُ مِنَ الْإِقَالَةِ لَهُ، وَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ): أَيْ بِالْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} يَقُولُ: وَهُمُ الْيَوْمَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مُحَمَّدًا مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، يَعْنِي أَنَّهُمْ يَرْجُمُونَهُ، وَمَا أَتَاهُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ بِالظُّنُونِ وَالْأَوْهَامِ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: هُوَ سَاحِرٌ، وَبَعْضُهُمْ شَاعِرٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) قَالَ: قَوْلُهُمْ سَاحِرٌ بَلْ هُوَ كَاهِنٌ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) أَيْ: يَرْجُمُونَ بِالظَّنِّ، يَقُولُونَ: لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) قَالَ: بِالْقُرْآنِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَحِيلَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ، فَقَالُوا: آمَنَّا بِهِ (وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) حِينَئِذٍ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا كَانُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ ذَلِكَ يَكْفُرُونَ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَفْصٍ الْأُبَلِّيِّ قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قَالَ: حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا مُؤَمَّلٌ قَالَ: ثنا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، وَسُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قَالَ: حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ. حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي زِيَادٍ قَالَ: ثنا يَزِيدُ قَالَ: ثنا أَبُو الْأَشْهَبِ عَنِ الْحَسَنِ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قَالَ: حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ شِبْلٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قَالَ: مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا لِيَتُوبُوا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) كَانَ الْقَوْمُ يَشْتَهُونَ طَاعَةَ اللَّهِ أَنْ يَكُونُوا عَمِلُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا حِينَ عَايَنُوا مَا عَايَنُوا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: ثنا الْحَسَنُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ: ثنا أَبُو الْأَشْهَبِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قَالَ: حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ وَزَهْرَةِ الدُّنْيَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، قَالَ: ثني الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ (وَحِيَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قَالَ: مِنْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ زَهْرَةٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قَالَ: فِي الدُّنْيَا الَّتِي كَانُوا فِيهَا وَالْحَيَاةِ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا تَمَنَّوْا حِينَ عَايَنُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا عَايَنُوا، مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ تَمَنَّوْهُ، وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ فَقَالَ اللَّهُ: وَأَنَّى لَهُمْ تَنَاوُشُ ذَلِكَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَقَدْ كَفَرُوا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) خَبَرًا عَنْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى مَا تَمَنَّوْهُ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ غَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ (كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) يَقُولُ: فَعَلْنَا بِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ؛ فَحُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ عِنْدَ نُزُولِ سُخْطِ اللَّهِ بِهِمْ، وَمُعَايَنَتِهِمْ بَأْسَهُ، كَمَا فَعَلْنَا بِأَشْيَاعِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ كُفَّارِ الْأُمَمِ؛ فَلَمْ نَقْبَلْ مِنْهُمْ إِيمَانَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَمَا لَمْ نَقْبَلْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ ضُرَبَائِهِمْ. وَالْأَشْيَاعُ: جَمْعُ شِيَعٍ، وَشِيَعٌ: جَمْعُ شِيعَةٍ؛ فَأَشْيَاعٌ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ (كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) قَالَ: الْكُفَّارُ مِنْ قَبْلِهِمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا، كَانُوا إِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ إِيمَانٌ. وَقَوْلُهُ (إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَحِيلَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ عَايَنُوا بَأْسَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ؛ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلُ فِي الدُّنْيَا فِي شَكٍّ، مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ الَّذِي نَـزَلَ بِهِمْ وَعَايَنُوهُ، وَقَدْ أَخْبَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُنِيبُوا مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، أَنَّ اللَّهَ مُهْلِكُهُمْ، وَمُحِلٌّ بِهِمْ عُقُوبَتَهُ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا، وَآجِلِ الْآخِرَةِ قَبْلَ نُـزُولِهِ بِهِمْ، مُرِيبٍ يَقُولُ: مُوجِبٌ لِصَاحِبِهِ الَّذِي هُوَ بِهِ مَا يُرِيبُهُ مِنْ مَكْرُوهٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدْ أَرَابَ الرَّجُلُ إِذَا أَتَى رِيبَةً وَرَكِبَ فَاحِشَةً، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: يَـا قَـوْمُ مَـا لِـي وَأبَـا ذُؤَيْـبِ؟ *** كُـنْتُ إِذَا أَتَوْتُـهُ مِـنْ غَيْـبِ يَشُـمُّ عِطْفِـي وَيَـبُزُّ ثَـوْبِي *** كَأَنَّمَـا أَرَبْتُـهُ بِـرَيْبِ يَقُولُ: كَأَنَّمَا أَتَيْتُ إِلَيْهِ رِيبَةً. آخِرُ سُورَةِ سَبَأٍ
|